متابعة/لطيفة القاضي
تستدعي مسألة التجريب تحدبد مصطلح التجريب الكثير من الحذر ، إذ يبدو المصطلح رغم ما يحمله ظاهريا من وضوح وتجل نابعا من جذره اللغوي ” جرب ” ومن ” تجربة ” إلا أنه مع ذلك يتسم بكثير من الزئبقية والمرونة ٠ الأمر الذي يجعل من هذا المصطلح قابلا لأن يكون فضفاضا ٠
ومن هذا المنطلق ، علينا أن نتعامل مع هذا المصطلح بطريقة تمكننا من الولوج في ثناياه وتقينا من متاهاته الظاهرية حتى نتمكن من ترصد آليات اشتغاله ٠
فالتجريب من هذه الرؤيا هو بحث عن الابتكار وعن الإضافة وإمكانية التوغل في عوالم مجهولة لفهمها وإدراكها ، كما فعلت الكاتبة غصون رحَّال في روايتها ” مَنُّ السَّما ” ، فالتجريب في روايتها بما هو قطع مع السائد وبحث عن أليات جديدة ، وطرق اخرى ومسالك مبتكرة ، ( الكُرة الحديدية السوداء تقرقع عائدة إلى موقعها فوق الحزام الكهربائي المتحرّك ، وفكرةٌ خاطفة تقرقع في رأسي ٠٠٠ ص9 ) ٠
كما التجريب بما هو مغامرة من اجل اكتشاف طرق ومسالك جديدة يمكن لها ان تضيف وتساهم في تطوير السرد الروائي وبذلك يكون التجريب في جدل مع متواصل مع الشخصيات الروائية ، ( تعال لأحدّثك عن الجنون الحقّ ، ولأقصّ على مسامعك كلّ ما فاتك من فظائع الحياة المزدوجة في هذه المؤسسة المفصومة ، حمّالة الأوجه ، صاحبة الظلّ الطويل التي متَّ قبل أن يأتيك نبؤها ٠٠٠ ص16 )٠
يتحرك التجريب ضمن الأشكال المتفق عليها من اجل تجاوزها اعتمادا على السؤال ، اسئلة لا تستكين للمتعارف عليه إنما تلج المغامرة لا فتضاض المجهول ، ( منذ اليوم سأتولىّ رسميًا منصب ” مسؤول حقوق إنسان ” ، في مكتب المفوضيّة السّامسة لحقوق الإنسان ٠ ابتسمتُ غير واثقة من ألمعيّة اللقب ٠ تُرى كيف سيكون شكل هذه المسؤولية ؟ ولماذا يختارون مثلَ هذه الألقاب الغريبة اساسًا ؟ ص36) ٠
هذا التراكم في ذاكرتنا بفعل الزمن ، هذا المتناقل جيلا بعد جيل ، هذا المشكل للوعي الفكري في السرد الروائي ٠ يكون في مواجهة لفعل التجريب ، ( – ذاكرتي لا تُسقط شيئًا ، وكلُّ الاحداث والتفاصيل لا زالت موجودة هنا ، مشيرة إلى رأسي ص124 ) ٠
ففعل التجريب يتسلّح بالسؤال لفتح آفاق أخرى تدخل في جدل متواصل مع هذا الكم الهائل من المتوارث الروائي حيث لا يمكن ان نجرّب من فراغ ، لا يمكن ان نجرّب ونحن في غفلة او جهل بالمورث الروائي العربي بمرجعياته الفكرية والجمالية وبالأدوات الإجرائية التي تعتمدها في تشكيل الفعل الروائي ، ( تجاوزنا امرأة تقرفص أمام نارٍ هزيلة أضرمتها بحزمة من العيدان الجافة ، بين حجرين كبيرين ، يرتكز فوقًهما لوحٌ من الصاج ، رمتْ فوقه برغيفٍ رقيق لينضج على مهَل ، وإلى جوارها لُجيَن العجين ، واناءٌ معدنيّ مملوء بالطحين ص 151) ٠
وكما لجات غصون رحّال في ” مَنُّ السَّما ” الدخول في ثنايا الصراع الخصب والتوتر الخلاق مع المتفق عليه ٠ لذا فإن التجريب هو رحلة تساؤل للقوانين والأطر من اجل فتح آفاق أخرى للفعل الروائي ، هذا الفعل المنتظر دائما لإضاءت اخرى وتفريعات جديدة من شأنها تدعيم هذا السرد الروائي المكتوب والقائم على التخيل البصري ، ( اسند رأسي إلى إطار النافذة وأتظاهر بالنوم هربًا من مضايقات جاري ٠ تسير الحافلة مسرعة ، ناهبة المسافات ، والوقت ، فوق هذا الإسفلت اللعين الذي لا ينتهي ٠٠٠ واين انت يا غزة ؟ ص174 ) ٠
هكذا يكون التجريب فعلا يتحرك داخل قوانين المعروفة والطرق المورثة ليتجاوزها في رحلة البحث عن مغامرة أخرى للوصول إلى هتك هذه القوانين وإيجاد سبل بكر تحمل إلى آفاق غير مضمونة النتائج فالخلط بين مفهوم الإبداع ومفهوم التجريب جعل غصون رحاَّل في بحثها عن اشكال تجريبية سردية تجاوز الأشكال التقليدية للسرد الروائي ،( أدسُّ ورقةً نقدية في يده ، واهربُ قبل أن تفعل الخمرة فعلها في رأسي ، واتفوّه بما لا ارغب به من ترّهات ٠
اعود إلى إلبيت لأتلقّى صفعات الهواء ٠٠٠ ص197 ) ٠
ولذلك ذهبت غصون رحَّال في عملية من الإندماج لأن خطابها الروائي موجه في جوهره إلى الفضح ، وما دليل على ذلك إلا استعمالها لتقنيات السرد والتطور والتقاطع لأحداث الرواية ٠ هذه التقنية كانت تتطلب استعمال إضاءة بين العتمة للكلمات والظّل عوضا عن تلك الإثارة ، ( بسبقني إلى المكان الذي انوي التوجه لزيارته ، إلا إنه اليوم تجاوز كل الحدود عندما اقترب مني خلسةً وهمس في أذني مُهدًدًا : سنفرمك ص221) ٠
ان البطل الرئيس في رواية ” مَنُّ السَّما ” لغصون رحَّال ، التجريب الذي هو في مرحلة التكوين بالنسبة للرواية ، الرواية التي لها المستقبل ، لأنها تقوم ، وتعبر ، عن حركة اجتماعية هي ذاتها في طور التكوين ، وهي القادرة على تحريك حدود الزمن ، والانتقال من الماضوية الى المستقبلية ٠